الجزائر تدخل في مواجهة مباشرة مع مالي بعد إعلان تحالف معارض جديد للسلطة في باماكو بقيادة محمود ديكو
عاد المشهد المالي إلى الواجهة بتطور لافت يعيد خلط الأوراق في منطقة الساحل، بعدما أعلنت تنظيمات أزواد الطرقية، أول أمس الجمعة، تأسيس تحالف سياسي جديد تحت اسم ائتلاف "القوى من أجل الجمهورية"، واضعة رجل الدين محمود ديكو على رأسه، وهو الشخصية الدينية والقيادية المقيمة في الجزائر منذ نهاية 2021.
ويأتي هذا المستجد في توقيت تعيش فيه العلاقات بين باماكو والجزائر أسوأ مراحلها منذ سنوات، بما يجعل إطلاق هذا التكتل السياسي المعارض من طرف قيادات ماليّة تتحرك من التراب الجزائري خطوة محمّلة بإشارات سياسية تتجاوز حدود الخلاف التقليدي بين البلدين إلى رغبة جزائرية في خلط الأوراق بمالي بعدما سٌحب بساط الامساك بخيوط الأزمة المالية من تحت أقدامها .
وفي خضم هذا المشهد، حمل بيان ائتلاف القوى من أجل الجمهورية نبرة تصعيدية ضد السلطة الانتقالية المالية، وقدم صورة قاتمة للوضع الداخلي في مالي، إذ تحدث معدوه عن دولة ضعيفة ومؤسسات منهارة وشعب يتألم، في تصور يهدف إلى ضخ زخم سياسي يوحي بأن البلاد بلغت مستوى من الانسداد يجعل المقاومة واجبا وطنيا لا خيارا سياسيا.
ودعا البيان الجيش إلى ما سماه عصيانا أخلاقيا في مواجهة الأوامر التي تقود الجنود إلى الموت في عمليات يوصف بأنها بلا رؤية أو موارد، كما طالب بوقف ما يسميه مجازر المدنيين والعسكريين عبر إطلاق حوار وطني شامل مع كل الفاعلين، بمن فيهم الجماعات المسلحة الوطنية، وهي لغة مكثفة بالاتهامات والتوصيفات السوداوية تعكس رغبة قادة الائتلاف في استثمار حالة الاحتقان الداخلي، وتعطي في الوقت تفسه انطباعا بأن هذا الصوت المعارض يستمد جزءا من قوته من مساحة الحركة التي توفرها الجزائر بحكم وجود قيادتها الأساسية على أراضيها.
وتبدو دلالات وأهداف هذا التحالف أكثر وضوحا حين يؤخذ بعين الاعتبار أنّ الأزمة السياسية بين مالي والجزائر لم تتفجر بسبب حادثة منفردة، بل جاءت نتيجة تراكمات ممتدة منذ انسحاب المجلس العسكري المالي، بقيادة العقيد عاصيمي غويتا، مطلع 2024 من اتفاق السلم والمصالحة الموقع في الجزائر عام 2015، وهو الاتفاق الذي رأت الجزائر فيه إحدى أهم أوراق نفوذها الإقليمي داخل الساحل.
ومع انهيار اللجنة الدولية المكلفة بمتابعة تنفيذ الاتفاق، والتي كانت الجزائر ترأسها، أصبحت العلاقات بين الطرفين تسير في اتجاه تصادمي، توج لاحقاً بواقعة إسقاط سلاح الجو الجزائري طائرة مسيرة مالية على الحدود في ليلة الحادي والثلاثين من مارس الماضي، والذي اعتبرته باماكو حينها اعتداء مباشراً، فيما بررت الجزائر العملية بانتهاك الطائرة لمجالها الجوي بشكل متكرر وبطابع عدائي.
ورغم أنّ هذه الدعوات التي خاول معدوها إدراجها في خانة الخطاب السياسي المعارض، إلا أن تحرك أبرز قادتها من الجزائر، وعلى رأسهم محمود ديكو، يعطي لهذا التطور بعدا إقليميا لا يمكن فصله عن حالة القطيعة غير المعلنة بين باماكو والجزائر، فمنذ خروج مالي من اتفاق السلام، فقدت الجزائر دور الوسيط المهيمن داخل الملف المالي، وهو دور لطالما استثمرت فيه سنوات من الجهود السياسية والأمنية.
وفي خلفية هذا التحرك المعارض، يبرز عامل آخر لا يقل وزنا عن التوتر الدبلوماسي المباشر بين مالي والجزائر، ذلك أن دعم الجزائر غير المعلن لهذا الائتلاف لا يبدو موجها فقط نحو إضعاف السلطة الانتقالية بقيادة عاصيمي غويتا، بل تتحرك فيه أيضا هواجس مرتبطة بملف الطوارق والحركات الأزوادية، وهو الملف الذي كان شرارة الخلاف الكبرى بعد انسحاب باماكو من اتفاق الجزائر.
فالنظام الجزائري يعيش منذ سنوات حساسية متزايدة تجاه مطالب الطوارق داخل جنوب الجزائر، ويخشى أن يؤدي تشدد باماكو أو ميلها نحو خيارات عسكرية إلى رفع سقف مطالب طوارق مالي بشكل ينعكس مباشرة على الداخل الجزائري، وبذلك تصبح محاولة خلط الأوراق في مالي وإعادة هندسة المشهد المعارض هناك وسيلة لتأمين هامش أكبر من تحكم النظام الجزائري في ديناميات الميدان الطوارقي، عبر رعاية قوى سياسية أو اجتماعية قادرة على خلق توازن يعيد للجزائر حق التأثير في شمال مالي، ويمنع انتقال عدوى المطالب إلى عمقها الجنوبي.




